فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأشرف ما في الإنسان هو الوجه، وعندما نكون عبادًا لله سنسوء وجوههم، وفوق ذلك: {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7].
ولم يأت الحق بذكر المسجد من قبل، فها هوذا قوله الكريم: {وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا} [الإسراء: 4-5].
إذن فالحق هنا لم يأت بذكر المسجد في أول مرة. فكيف يكون دخولنا المسجد إذن؟. لقد دخلنا المسجد الأقصى أول مرة في الامتداد الإسلامي في عهد عمر بن الخطاب- رضي الله عنه. والمسجد الأقصى أيام عمر بن الخطاب لم يكن في نطاق بني إسرائيل، ولكن كان في نطاق الدولة الرومانية، فدخولنا المسجد أول مرة لم يكن نكاية فيهم. ولكن الحق جاء بالمرة الثانية هنا والمسجد في نطاق سيطرة بني إسرائيل. {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 7].
سنكون نحن إذن عبادًا لَلَّهِ ذوي البأس الشديد الذين سندخل المسجد الأقصى كما دخلناه أول مرة، وجاء الحق سبحانه بالمسجد هنا؛ لأن دخول المسجد أول مرة لم يكن إذلالًا لليهود، فقد كانت السلطة السياسية في ذلك الزمن تتبع- كما قلنا- الدولة الرومانية.
ويضيف الحق من بعد ذلك: {وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7].
وحتى نتبر ما يُعْلُونه- أي نجعله خرابا- لابد أن تمر مدة ليعلوا في البينان.
وعلينا أن نعد أنفسنا لتكون عبادًا لله لنعيش وعد الآخرة وقد جعلها الله وعدا تشريعيًا، فإذا عدنا عبادًا لله فسندخل المسجد ونتبر ما علوا تتبيرا، والحق سبحانه وتعالى في آيات سورة المائدة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يأتي بلقطة عن بلاغه لسيدنا موسى بعد خروجه مع قومه من مصر، فقال: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21].
وقلنا إن الكتابة هنا تشريعية وليست كونية، فلو كان الأمر كونيًا لدخلوا الأرض المقدسة بدون عقبات وبدون صراع وبدون قتال.
والدليل على أن الكتابة تشريعية هو قوله الحق: {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} أي أنكم إن ارتددتم على أدباركم انقلبتم خاسرين. فإن أطعتم الله ودخلتم الأرض دون إدبار، فستدخلون الأرض، وإن لم تفعلوا فلن تدخلوها. إذن ليست كتابة الأرض هنا كونية، ولكنها تشريعية.
وقوله الحق: {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ} يشرح لنا طبيعة مواجهة الخصم؛ فالإنسان حين يواجه خصمه فهو يواجهه بوجهه. فإن فرّ الخصم من أمامه فهو يولي أدباره. والتولي على الأدبار يكون على لونين: لون هو الإدبار من أجل أن ينحرف الإنسان إلى جماعة وفئة لتشتد قوتهم ويقووا على هزيمة العدو أو يصنع مكيدة؛ ليعيد مواجهة الخصم، ولون آخر وهو الفرار وذلك مذموم، ومن المعاصي الموبقات المهلكات. وفي ذلك يقول الحق سبحانه: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [الأنفال: 16].
فالارتداد على الأدبار ليس مذمومًا إن كان من أجل حيلة أو صنع كمين للعدو. وفي هذه الحالة لا بأس أن يرتد الإنسان، أما خلاف ذلك فهو مذموم. وهل الارتداد على الأدبار رجوع بالظهر إلى الوراء مع الاحتفاظ بالوجه في مواجهة الخصم؟. أو هو التفات بالوجه ناحية الدبر وفرار من العدو؟. كلا الأمرين يصح. وقد جاء الأمر إلى بني إسرائيلَ بعدم الفِرار ليدخلوا الأرض فماذا كان موقفهم مادامت الكتابة لهذا الأمر تشريعية؟. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)}.
أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: {الأرض المقدسة} قال: هي المباركة.
وأخرج ابن عساكر عن معاذ بن جبل قال: الأرض ما بين العريش إلى الفرات.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة في قوله: {الأرض المقدسة} قال: هي الشام.
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: {التي كتب الله لكم} قال: أمركم الله بها.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قال: أمر القوم كما أمروا بالصلاة والزكاة والحج والعمرة. اهـ.

.سؤال وجوابه:

سؤال: فإن قيل: لم قال: {كَتَبَ الله لَكُمْ} ثم قال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 26].
والجواب: قال ابن عباس: كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم.
وقيل: اللفظ وإن كان عامًا لكن المراد هو الخصوص، فصار كأنه مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم.
وقيل: إن الوعد بقوله: {كَتَبَ الله لَكُمْ} مشروط بقيد الطاعة، فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط، وقيل: إنها محرمة عليهم أربعين سنة، فلما مضى الأربعون حصل ما كتب. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
وقرأ ابن مُحَيْصِن هنا وفي جميع القُرْآن {يَا قَوْمُ} مضموم الميم.
وتروى قراءة عن ابن كثيرٍ ووَجْهُهَا أنَّها لُغَةٌ في المُنَادى المضاف إلى يَاءِ المُتَكَلِّم كَقِرَاءة {قَالَ رَبِّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112]، وقد تقدَّمَت هذه المسألة.
وقرأ ابن السمَيْفع: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا} بفتح الياء.
قوله: {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ} فالجار والمجرور حال من فاعل {تَرتَدوا} أي: لا ترتدوا مُنقلبين، ويجُوزُ أن يتعلَّق بِنَفْسِ الفَعْل قَبْلَهُ.
وقوله: {فَتَنْقَلِبُوا} فيه وجهان:
أظهرُهُمَا: أنَّهُ مَجْزُومٌ عَطْفًا على فِعْل النَّهْي.
والثاني: أنَّهُ منصُوبٌ بإضْمَار «أنْ» بعد الفَاءِ في جواب النَّهي.
و{خَاسِرِين} حالٌ.
وفي المَعْنَى وجهان:
أحدهما: لا يَرْجِعُوا عن الدِّين الصَّحيح في نُبُوَّة مُوسَى؛ لأنَّهُ عليه السلام لما أخْبَرَ اللَّه تعالى جعل تِلْكَ الأرْضَ لَهُم، أو كان هذا وعْدًا بأنَّ الله يَنْصُرهم عليهم، فلو لَمْ يقْطعُوا بِهَذِه النُّصْرَة، صارُوا شاكِّين في صِدْق مُوسى- عليه الصلاة والسلام- فيصيروا كافرين بالنُّبُوَّة والإلهِيَّة.
والثاني: لا ترجِعُوا عن الأرْضِ التي أمرتُم بِدُخُولِها إلى الأرْض الَّتِي خَرَجْتُم عنها، يُرْوَى أنَّهُم عَزَمُوا على الرُّجُوعِ إلى مِصْر. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (22):

قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا السياق محركًا للنفس إلى معرفة جوابهم عنه، أورده على تقدير سؤال من كأنه قال: إن هذا لترغيب مشوق وترهيب مقلق، فما قالوا في جوابه؟ فقال: {قالوا} معرضين عن ذلك كله بهمم سافلة وأحوال نازلة، مخاطبين له باسمه جفاء وجلافة وقلة أدب {يا موسى} وأكدوا قولهم تأكيد من هو محيط العلم، فقالوا مخاطبين بجرأة وقلة حياء لأعلم أهل زمانه: {إن فيها} أي دون غيرها {قومًا جبارين} أي عتاة قاهرين لغيرهم مكرهين له على ما يريدون {وإنا لن ندخلها} خوفًا منهم {حتى يخرجوا منها} ثم صرحوا بالإتيان بالجملة الاسمية المؤكدة بتهالكهم على الدخول وأنه لا مانع لهم إلا الجبن فقالوا: {فإن يخرجوا منها} أي بأي وجه كان، وعبروا بأداة الشك مع إعلام الله لهم بإهلاكهم على أيديهم جلافة منهم وعراقة طبع في التكذيب {فإنا داخلون} فكأنه قيل: إن هذه لسقطة ما مثلها، فما اتفق لهم بعدها؟ فقيل: {قال رجلان}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم {قَالُواْ يا موسى إن فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ}.
وفي تفسير الجبارين وجهان:
الأول: الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه، وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد، وهذا هو اختيار الفرّاء والزجاج.
قال الفرّاء: لم أسمع فعالًا من أفعل إلا في حرفين وهما: جبار من أجبر، ودراك من أدرك، والثاني: أنه مأخوذ من قولهم نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها، ويقال: رجل جبار إذا كان طويلًا عظيمًا قويًا، تشبيهًا بالجبار من النخل والقوم كانوا في غاية القوة وعظم الأجسام بحيث كانت أيدي قوم موسى ما كانت تصل إليهم، فسموهم جبارين لهذا المعنى.
ثم قال القوم {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخلون} وإنما قالوا هذا على سبيل الاستبعاد كقوله تعالى: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل في سَمّ الخياط} [الأعراف: 40]. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالُوا يا موسى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} أي عظام الأجسام طوالٌ، وقد تقدّم؛ يُقال: نخلة جبارة أي طويلة.
والجبار المتعظم الممتنع من الذلّ والفقر.
وقال الزجاج: الجبار من الآدميين العاتي، وهو الذي يجبِر الناس على ما يريد؛ فأصله على هذا من الإجبار وهو الإكراه؛ فإنه يجبِر غيره على ما يريده؛ وأجبره أي أكرهه.
وقيل: هو مأخوذ من جبر العظم؛ فأصل الجبار على هذا المصلح أمر نفسه، ثم استعمل في كل من جرّ لنفسه نفعًا بحق أو باطل.
وقيل: إنّ جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه.
قال الفرّاء: لم أسمع فعّالًا من أفعل إلاَّ في حرفين؛ جَبّار من أجبر ودرّاك من أدرك.
ثم قيل: كان هؤلاء من بقايا عاد.
وقيل: هم من ولد عِيصو بن إسحاق، وكانوا من الروم، وكان معهم عوج الأعنق، وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعًا؛ قاله ابن عمر، وكان يحتجِن السحاب أي يجذبه بمحجنه ويشرب منه، ويتناول الحوت من قاع البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله.
وحضر طوفان نوح عليه السَّلام ولم يجاوز ركبتيه وكان عمره ثلاثة آلاف وستمائة سنة، وأنه قلع صخرة على قدر عسكر موسى ليرضخهم بها، فبعث الله طائرًا فنقرها ووقعت في عنقه فصرعته.
وأقبل موسى عليه السَّلام وطوله عشرة أذرع؛ وعصاه عشرة أذرع وترقى في السماء عشرة أذرع فما أصاب إلاَّ كعبه وهو مصروع فقتله.
وقيل: بل ضربه في العِرق الذي تحت كعبه فصرعه فمات ووقع على نيل مصر فجسَرهم سنة.
ذكر هذا المعنى باختلاف ألفاظ محمد بن إسحاق والطَّبريّ ومكيّ وغيرهم.
وقال الكَلْبيّ: عوج من ولد هاروت وماروت حيث وقعا بالمرأة فحملت.
والله أعلم.
قوله تعالى: {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا} يعني البلدة إيلياء، ويُقال: أَرِيحاء {حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا} أي حتى يسلموها لنا من غير قتال.
وقيل: قالوا ذلك خوفًا من الجبارين ولم يقصِدوا العِصيان؛ فإنهم قالوا: {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}. اهـ.